أحفاد الشوارع… يزحفون في ظلال الصدقة

لم أكن رأيت ريم من قبل. وكنت قد سمعت عنها عندما حدثتنى شيماء عن أسماء غريبة لبعض الأطفال، وكيف يطلق عليهم الملجأ أسماء أخرى. وكان اسم الطفلة ريم ذات السنوات الخمس، «أم حامد» فى شهادة ميلادها. وراقبتنى ريم بعيون تشع ذكاء. وقد تدربت، لأنها عاشت فى الشارع طوال سنواتها الخمس، على ملاحظة الغرباء وتحديد ــ خلال دقائق قليلة ــ ما إذا كانوا يمثلون خطرا أو لا يضمرون أذى. وهى موهبة يتمتع بها معظم أطفال الشوارع الذين قد تقابلهم.

وقد شاهدتنى وأنا ألعب مع الأخريات، وتابعت بعضهن يأتى ليعانقنى وأعانقه. ورأيتها بطرف عينى، وهى تستمع باهتمام إلى تعليقاتى، وهن يحكين لى ما حدث فى الملجأ خلال الصباح، وعن آخر رسوماتهن، وكيف تعرضت سالى للعقاب لأنها أهانت إحدى «أخواتها»، وعندما تأكدت أننى لا أمثل تهديدا، سارت نحوى مترددة. حملتها وأثنيت على ملابسها وسألتها عن اسمها. فقالت »أنا ريم». قلت «آه.. ريم، سمعت كثيرا عنك، أخبرتنى ماما شيماء وماما ناهد كيف افتقدتاك، وظلتا تتحدثان عن جمالك وأدبك». وكان رد فعلها مؤثرا. فألقت بذراعيها الصغيرتين حول عنقى وقفزت لتجلس على ركبتى. ولاحظت لأول وهلة أن لديها قمل فى شعرها، وكنت خجلة من نفسى لأننى ابتعدت قليلا حتى لاتزحف الحشرات إلى شعرى. وفى مثل هذه اللحظات أود أن أذكرك، أيها القارئ، بالإعجاز والتفانى الذى يتسم به هؤلاء الذين كرسوا حياتهم لأطفال الشوارع، واختاروا العمل معهم بشكل يومى، وينتقل إليهم فى كثير من الأحيان القمل، والطفح الجلدى، والالتهابات والعدوى من الأطفال، ولا يخجلون من معانقتهم، ورعايتهم، وتقبلهم. و لهؤلاء الناس ارفع القبعة بكل إحترام لأنهم يعرضون حياتهم للخطر بشكل يومي و هم يدافعون عن أطفال الشوارع الذين هم في الأصل مصدر دخل من الشحادة و الدعارة لبلطجية و زعماء دوائر شحادة او دعارة في الشوارع.

ويدور هذا الموضوع عن أبناء أولئك الأطفال فى الشوارع جيل جديد أكثر تهميشا من الأطفال الذين أنجبوهم. ولأنهم لا يندرجون تحت التصنيفات التقليدية لـ«الأيتام»، فهم إما يباعون، أو يقتلون، أو يستخدمون للتسول، أو إذا كانوا محظوظين للغاية يتركون فى الملجأ، الذى يتعلم، من خلال التجربة والخطأ، التكيف مع حاجات أطفال الشوارع بسبب عدم وجود مثال يمكن اتباعه.

في أغلب الأحيان يضطر الإِنسان أن يكتم صوت صريخ ضميره عندما يسمع هذه القصص بأنه يشير بأصبع الإِتهام على أطفال الشوارع و يتهمهم بالإِهمال كأنهم كانوا أصحاب القرار أن يحملوا و هم في هذا الوضع من المعيشة و يقولوا “كيف لهم أن يفعلوا هذا؟ الا يروا مدَى سوء وضعهم الحالي الذي سيولد فيه الطفل؟”  لكن ردّي على من يخطر بباله ذلك السؤال و على من لا يصل إلى أن يفكر في هذه الأشياء من الأساس أن اسألهم “و كيف لهم أن يروا؟ هؤلاء أطفال يعيشون في الملاجئ بعدما إغتصبهم والديهم أو بعدما تحرش بهم و إغتصبهم أزواج أمهاتهم أو إخواتهم أو من يعملون عنده.  أطفال تعاني من مشاكل نفسية و ذهنية، أطفال إغتصبهم من كان الأصح منه أن يرعاهم. هذه الأمثلة التي في الأرجح سببت لك الإِستياء موجودة لكن الإِغتصاب من قبل الأهالي أو في المؤسسات أو من الشرطة لا يعبر في حديثنا اليومي كأنه سر أكبر من كل الأسرار، لكن صدقني، عزيزي القارئ، أن الفتاة التي تحمل في الحالات المذكورة مسبقاً وضعها و حظها أفضل من غيرها فالإِغتصاب الذي يحدث في الشوارع ضرره و خطورته و ألمه اكبر بكثير.

وهناك ثقافة معينة للاغتصاب فى شوارع القاهرة، لم أكتشفها إلا عندما بدأت بحثى عن العنف الذى تعرضت له هؤلاء الفتيات. فبمجرد أن تغتصب فتاة الشارع للمرة الأولى، وإذا اتضح أنها عذراء، يجرح وجهها من تحت العين أو فوق مؤخرتها. وقد تم عمل 16 غرزة لإحدى الفتيات التى كانت تبحث عن مأوى فى الملجأ، بعد تعرضها لمثل هذا الاغتصاب. وهى إشارة إلى أن الرجال الذين اغتصبوها للمرة الأولى «علموا عليها» و«حطموها»! وينجم عن عمليات الاغتصاب التالية ندبة رأسية على جانب الوجه.  معاناة بنات الشوارع لا تنتهي عند تعرضهم للإغتصاب فالعلامات التي تنحت عليهم و الحمل ليسا إلا شيئين من أشياء أخرَى كثيرة بشعة سيواجهونها. إذا إستطاعت البنت ان تصل إلى ملجأ فمن الممكن أن تلقَى رعاية ما قبل الولادة في العيادة التابعة للملجأ لأنها لو لجأت للمستشفيات العادية فإِنها تتعرض للإِهانة و المعاملة القاسية من الموظفين الذين يسبوها و يعتدوا عليها اكثر.

ومن أكبر الإنجازات التى تفخر بها «قرية الأمل»، الدعوة الناجحة لتغيير قانون الطفل فى عام 2008 فيما يتعلق بالأطفال الذين يولدون لأمهات من آباء غير معروفين. فقبل عام 2008، كان الطفل المولود لفتاة الشارع، يبعد عنها، ويسجل تحت تسمية «مجهول الأبوين»، ويفصل عن الأم التى توصم بعد ذلك بالداعرة وتحبس فى مؤسسة إصلاحية بناء على هذا الاتهام، ولا يلتئم شمل الأم وطفلها مرة أخرى. وبعد حملة واسعة وبذل الكثير من الجهد، تم تغيير هذا القانون، وقرية الأمل الآن قادرة على مساعدة أمهات الشوارع الصغيرات على تسجيل أطفالهن باسم « مجهول الأب»، وتقديم المأوى للأم الطفلة وطفلها حتى تستطيع العيش بصورة مستقلة.

وبعد زيارتى الأولى إلى الملجأ قبل بضعة أشهر، سألت نفسى كيف يمكن لهؤلاء الفتيات الصغيرات ذوات البطون الكبيرة التعامل مع حالة الأمومة، هؤلاء الفتيات اللاتى هربن فى كثير من الأحيان إلى الشارع بعد اعتداء عنيف بدنى وجنسى، ارتكبه الأب أو زوج الأم. وهناك تاريخ لكل من هؤلاء الفتيات حيث تمثل كل منهن قصة رعب فى حد ذاتها، فكيف بعدما إغتصبها من قبل والديها ستتعامل “سميرة” التي تبلغ من العمر ١٢ عام  مع تلك هذه المسؤلية التي هربت بعد يومين من عملية قيصرية، وكيف سيكون التعامل بين “مايا” و بنتها “سمر” بعد ما تعرضت “مايا” لخلع ملابسها و ضربها و تركها على سطح المنزل مغطأة بالعسل من قبل والدها! كيف ستستطيع شوشو” التي تبلغ من العمر ١٤ عاماً أن تستيقظ كل يوم لتطعم طفلها الذي يبلغ من العمرشهرين عندما يجوع بعدما حرقوا عينيها في موقف من مواقف العنف الكثيرة التي واجهتهم من أهلها لكونها معاقة؟”

وبعد شهرين، جلست فى جلسة علاج جماعى، وشاهدت هدير (14 عاما) تلقم ثديها لوليدها الجديد فى حنان لم أره من قبل ولم أقرأ أو أسمع عن مثيله أبدا. ورحلت ذلك اليوم وأنا أشعر بالألم من ظلم هذا العالم الذى نعيش فيه وأدعو سامع الدعاء ألا يتخلى عن هؤلاء الصغيرات، وأن يمنح أطفالهن الفرصة التى لم تتح للأمهات. غير أن الواقع يختلف كثيرا عن ذلك الدعاء. فلا يقيم فى الملجأ و«يتخرج» منه سوى 20 فى المائة من أطفال الشوارع. وتعود الأخريات إلى الشارع خشية هذه المسئولية الكبيرة، التى اضطررن إلى تحملها.

وحتى الفتيات اللاتى تعلقن بأطفالهن، غالبا ما لا يستطعن البقاء. ومن أكثر الأمثلة التى تمزق القلب الطفلة منال ذات الثلاثة عشر عاما وتعانى من فصام عقلى، التى أنجبت الطفلة هند. وتعتبر منال أفضل طفلة أم على الرغم من أنها تترك ابنتها فى الملجأ. فقد تعرضت للاغتصاب من صبى فى منطقة ريفية بمصر، وأمضت شهور حملها فى الملجأ. وقد ظنت أنها إذا أخذت طفلتها معها، سوف تحرك العينان الصغيرتان اللامعتان مشاعر أبويها ليتوليا رعاية طفلتها الصغيرة. وبعد يومين، تم استدعاء الإخصائية النفسية إثر استغاثة من منال لإنقاذ هند من حبسها فى مزرعة الدجاج، فى محاولة من الوالدين لإخفاء ما اعتبروه العار الذى لحق بالعائلة. واستقلت شيماء الرائعة حافلة لمدة تسع ساعات، ثم حملت على صدرها الطفلة الصغيرة طوال تسع ساعات للعودة. وتحضر منال كل شهر لتمضى يومين مع هند. وهى تعمل بقية الأيام الأخرى لشراء الطعام والملابس لها. وانا أتحدى من يرى صراعها النفسى كى تغادر فى نهاية اليومين، أن يستطيع النوم فى تلك الليلة.

ويبدو أن حياة هؤلاء الأطفال لا تفتقر فقط إلى التمويل بعد الثورة ولكن إلى الاهتمام والوعى المجتمعيين. وهناك أمل فى نجاة أحفاد الشارع من الاغتصاب والجوع، والعنف إذا كنا، كمجتمع مسئول عن ظروفهم، نشعر بالغضب من عدم وجود قوانين تطبق لحماية هؤلاء الأطفال. وأنا أريد منك أيها القارئ، أن تغضب لعدم وجود قانون يسمح بأخذ الطفلة جودى ذات السنوات الأربع من أم الشارع التى أخرجتها من الملجأ لتتسول بها، بعد أن أحدثت فى رأسها قطعا من شأنه أن يكسبها نجاحا أكبر فى نيل تعاطف المارة. وعندما تمر أيها القارئ بجودى وآلاف من أمثالها فى الشارع، ولا تشعر بالغضب معنا، فعليك أن تدرك أننا جميعا السبب. فلتساند حملتنا لحماية هؤلاء الأطفال بحيث لا نواصل تحويلهم، مع جميع الأقليات الأخرى فى بلادنا، إلى السكان الأصليين فى مصر.

ولكن الآن، عودة إلى ريم ذات السنوات الأربع، فبعد أن تسلقت إلى حضنى واستسلمت لعناقها، واختلط شعرها الموبوء بالقمل بشعرى المغسول، وعندما تذكرت بارتياح أن لدى شامبو للقمل من لندن يحقق نتيجة خلال عشر دقائق، قلت للطلفة الصغيرة أننى كنت أنتظر لقائها، وقد سمعت أنها كانت بالخارج فى زيارة عائلية. فنظرت إلى بجدية بعينيها المستديرتين اللامعتين، وقالت: «أكره الزيارات العائلية، لقد اوقعت هبة الكوب، فربطنا والدى نحن الاثنتين معا، وضربني بالحزام هنا (و أشارت على ظهرها و العلامات الكثيرة التي تملأه) وتوقف عن ضربى عندما بللت نفسى. عندما أكبر سأصبح شرطية. وسوف أقتل أبى”.

thank you to Ahmed AboElhassan (from Tahrir Supplies) and Gameel Mattar (from Al Shorook News) for helping with the translation

5 Comments

  1. الحل هو الأم تريزة… كثيرات منها. أنت ياعزيزتى باحثة ذات قلب رقيق وحس مرهف، ستحصلين على درجة الدكتوراة وتعيشين فى لندن أو الزملك أو القاهرة الجديدة ولديك شامبو لقتل القمل فى عشرة دقائق. وأنا أكل طبق سيريل باللبن والبلوبرى. وأقرأ كلماتك وأتأثر بها وأكمل أفطارى وأملئ بطنى. ثم أحتسى كوب الشاى الساخن وأكتب لك هذه الكلمات. بماذا سننفع تلك المخلوقات البائسات بغير الكلمات والمقالات نملئ بها صفحات الإنترنت وندمى قلوب من يقرأون. بينما هن فى حاجة شديدة إلى الأم تريزة تأكل معهن وتنام معهن على الأرض وتحتضنهن كما تحتضن الأم رضيعها. ليس مجرد موظفة ومدير وباحثة إجتماعية يتعاملون مع حالات ورقية وأعداد وتسجيل دخول وخروج وحفلات رفاهية لجمع مال للبوئساء. من أين سنجد الأم تريزا ونحن جميعاً نفضل أن نعامل تلك المخلوقات على صفحات الإنترنت أو البحث والتدوين وليس لدينا الشجاعة أو الدافع لأن نكون الأم تريزا بالحقيقة.

    • Ihab, I think your reply touched me more than anything I could have written could touch anyone else. You are right; so right. The only way forward perhaps is a million mother Teresa’s. On my part, the only thing I could do, was to choose to do my research on the children, to refuse a salary working for the organisation, to get myself in £12,000 (so far) on debt doing research on a topic no one and no organisation is interested in funding, leaving my husband only 3 weeks after marrying him to volunteer in another country with the kids and to encourage people that there is more to give than money… But like you say, what is that compared to what they need… one day maybe I will be braver… Thank you so much for your comment, it has hit the nail on the head… thank you..

Leave a reply to عيل من بتوع تويتر (@Ahmedh_Ibrahim) Cancel reply